دراسات إسلامية 

 

الرحمة في الإسلام

(2/2)

 

بقلم : الأستاذ أشرف شعبان أبو أحمد / جمهورية مصر العربية (*)

 

     وتتجلى رحمة الله في رزق كل زوجين بالأبناء ، وتبدو مظاهر تجليها أكثر فيما إذا كان هذا الرزق لشيخ كبير ولزوجة عقيم وهو الذي نعتبره نحن البشر فوق العادة أو غير المألوف ، فسيدنا زكريا هذا الشيخ العجوز وزوجته العاقر التي لا تلد قد وهب الله لهما يحيى ، قال تعالى «كهيعص ذِكْرُ رَحْمتِ رَبِّكَ عَبْدَه زَكَرِيَّا إِذْنَادَىٰ رَبَّه نِدَاءً خَفِيًّا قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّيْ وَاشْتَعَلَ الرَّأسُ شَيْبًا وَّ لَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا وَإِنِّيْ خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرَائِيْ وَكَانَتِ امْرَأَتِيْ عَاقِرًا فَهَبْ لِيْ مِنْ لَّدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِيْ وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوْبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمِ نِاِسْمُهُ يَحيىٰ لَمْ نَجْعَلْ لَّهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا» (سورة مريم الآيات 1-7) فلا يستسلم عديمو الإنجاب للقوانين البشرية المحدودة المعرفة ولا ييأسوا أبــدًا مهما طال بهم العمــر بل يلجــأون إلى المـولى عزّ وجلّ مستنجدين برحمته .

     كما أن المكتشفات العلمية والمنشات البنائية بنت كل عصر ومعجزته هي صورة من صور رحمة الله وهكذا كان بناء ذي القرنين للسد لمنع يأجوج ومأجوج من الفساد والتي ورد ذكرها في القرآن الكريم قال تعالى في سورة الكهف الآيات 94-98 (قَالُوْا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إنَّ يَأْجُوْجَ وَمَأْجُوْجَ مُفْسِدُوْنَ فِيْ الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلىٰ أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا قَالَ مَا مَكَّنِّيْ فِيْهِ رَبِّيْ خَيْرٌ فأَعِيْنُوْنِيْ بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا أتُوْنِيْ زُبَرَ الْحَدِيْدِ حَتّى إِذَا سَاوىٰ بَيْنَ الصَّدَفِيْنِ قَالَ انْفَخُوْا حَتّى إِذَا جَعَلَهُ نارًا قَالَ أَتُوْنِيْ أُفْرِغْ عَلَيْهِ قَطْرًا فَمَا اسْطاعُوْا أن يَّظْهَرُوْهُ وَمَا اسْتَطَاعُوْا لَهُ نَقْبًا قَالَ هَذَا رَحْمَة مِن رَبّيْ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّيْ جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّيْ حَقًّا) وفي هذا العصر وأعداء الإسلام يحيطون بنا من كل جانب لاَ يهدأ لهم بال ولا يَهنأ لهم حال حتى يجدوا كلّ وسيلة أحدث وأكفأ من سابقتها للفتك بنا ، لن ينقذنا منهم إلا رحمة الله تقدر لنا بناء تجهيزات تحمينا من أسلحتهم ، بل والرد عليهم الصاع صاعين .

     وتتجلى رحمة الله في كلّ ما سخره الله لنا من حولنا ومن فوقنا ومن تحتنا مما نعلمه ومما لا نعلمه من آيات ونعم وهي كثيرة لا تحصى منها على سبيل المثال لا الحصر : الليل النهار القمر النجوم الكواكب المطر الرياح البحار الأنهار النباتات الحيوانات الأراضي الزراعية والصحراوية المال البنون ... الخ وإن كان وجود كل هذه النعم وكل هذه المسخرات وكل هذه المتع في حد ذاته نعمة ، لكن إن لم تشملها وتحفها وتحيطها رحمة الله فإنها تتحول من نعمة إلى نقمه ، فما من نعمة يمسك الله معها رحمته حتى تنقلب هي بذاتها نقمه وما من محنه تحفها رحمة الله حتى تكون هي بذاتها نعمة ، ينام الإنسان على الشوك مع رحمة الله فإذا هي مهاد وينام علي الحرير وقد أمسكت عنه فإذا هو شوك القتاد ، ويعالج أعسر الأمور برحمة الله فإذا هي هوادة ويسر ، ويعالج أيسر الأمور وقد تخلت رحمة الله فإذا هي مشقة وعسر، ويخوض بها المخاوف والأخطار فإذا هي أمن وسلام ويعبر بدونها المناهج والمسالك فإذا هي مهلكة وبوار، ولا ضيق مع رحمة الله إنما الضيق في إمساكها دون سواه ، لا ضيق ولو كان صاحبها في غياهب السجن أو في جحيم العذاب أو في شعاب الهلاك ، ولا سعه مع إمساكها ولو تقلب الناس في أعطاف النعيم وفي مراتع الرخاء ، فمن داخل النفس برحمة الله تتفجر ينابيع السعادة والرضا والطمأنينة ، ومن داخل النفس مع إمساكها تدب عقارب القلق والتعب والنصب والكد والمعاناه . هذا الباب وحده يفتح وتغلق جميع الأبواب وتوصد جميع النوافذ وتسد جميع المسالك فما هو بنافع وهو الشيق والكرب والشدة والقلق والعناء. هذا الفيض يفتح ثم يضيق الرزق ويضيق السكن ويضيق العيش وتخشن الحياة ويشوك المضجع فلا عليك فهو الرخاء والراحة والطمأنينة والسعادة ، وهذا الفيض يمسك ثم يفيض الرزق ويقبل كل شيء فلا جدوى وإنما هو الضنك والحرج والشقاوة والبلاء . المال والولد والصحة والقوة والجاه والسلطان تصبح مصادر قلق وتعب ونكد وجهد إذا أمسكت عنها رحمة الله ، فإذا فتح الله أبواب رحمته كان فيها السكن والراحة والسعادة والاطمئنان . يبسط الله الرزق مع رحمته فإذا هو متاع طيب ورخاء وإذا هو رغد في الدنيا وزاد إلى الآخرة ، ويمسك رحمته فإذا هو مثار قلق وخوف وإذا هو مثار حسد وبغض ، وقد يكون معه الحرمان ، ببخل أو مرض ، وقد يكون معه التلف فإفراط أو استهتار . ويمنح الله الذرية مع رحمته فإذا هي زينة في الحياة ومصدر فرح واستمتاع ومضاعفة للأجر في الآخرة بالخلف الصالح الذي يذكر الله ، ويمسك رحمته فإذا الذرية بلاء ونكد وعنت وشقاء وسهر بالليل وتعب بالنهار . ويهب الله الصحة والقوة مع رحمته فإذا هي نعمة وحياة طيبة وتلذذ بالحياة ويمسك رحمته فإذا الصحة والقوة بلاء يسلطه الله علي الصحيح القوي فينفق الصحة والقوة فيما يحطم الجسم ويفسد الروح ويدخر السوء ليوم الحساب . ويعطي الله السلطان والجاه مع رحمته فإذا هي أداة إصلاح ومصدر أمن ووسيلة لادخار الطيب الصالح من العمل والأثر. ويمسك الله رحمته فإذا الجاه والسلطان مصدر قلق على قوتهما ومصدر طغيان وبغي بهما ومثار حقد وموجدة على صاحبهما لا يقر له معهما قرار ولا يستمتع بجاه ولا سلطان ويدخر بهما للآخرة رصيدًا ضخمًا من النار. والعلم الغزير والعمر الطويل والمقام الطيب كلها تتغير وتتبدل من حال إلى حال مع الإمساك ومع الإرسال لرحمة الله ، قليل من المعرفة يثمر وينفع وقليل من العمر يبارك الله فيه وزهيد من المتاع يجعل الله فيه السعادة . والجماعات كالآحاد والأمم كالأفراد في كل أمر وفي كل وضع وفي كل حال ولا يصعب القياس على هذه الأمثال ...(6) وهكذا تتعدد وتتباين صور رحمة الله التي يكتبها لمن يشاء ويخص بها من يشاء من عباده .

     ورحمة الله أكبر من أن يتفهمها البشر ما لم يحطهم الله عز وجل ببيانها لهم ، فهذا هو سيدنا موسى نبي بني إسرائيل يتعجب ويستغرب لأفعال قام بها سيدنا الخضر عند خرقه للسفينة وقتله للغلام وإقامته للجدار ، ولكن سيدنا الخضر الذي قال فيه ربنا عز وجل في سورة الكهف آية 65 (آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَّدُنَّا عِلْمًا) كان أعلم بها ولذا فهو يرد على سيدنا موسى بقوله إن الذي فعلته في هذه الأحوال الثلاثة السابقة إنما هي رحمة من الله ، قال تعالى في سورة الكهف الآيات 79-82 (أَمَّا السَّفِيْنَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِيْنَ يَعْمَلُوْنَ فِيْ الْبَحْرِ فَأَردتُّ أَنْ أَعِيْبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِيْنَةٍ غَصْبًا وَأَمّا الْغُلاَمُ فَكاَن أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنَ فَخَشِيْنَا أَنْ يُّرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَّكُفْرًا فَأَرَدْنَا أَنْ يُّبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنهُ زَكَاةً وَّأقْرَبَ رُحْمًا ، وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيْمَيْنِ فِيْ الْمَدِيْنَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوْهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَّبْلُغَا أَشُدَّ هُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبّكَ وَمَا فَعَلْتُه عَنْ أَمْرِيْ ذَلِكَ تَأْوِيْلُ مَا لَمْ تَسْطِعُ عَلَيْهِ صَبْرًا) فهناك الكثير من الأمور قد يندهش أو يترعج لظاهرها أي إنسان ولكنها تمثل في باطنها رحمة من الله . كما إن هناك الكثير من البشر من يتغير حالهم إذا منّ الله عليهم برحمته أو أمسكها عنهم ابتلاء لهم ومنهم من يؤولها على غير وجهها قال تعالى في سورة الروم آية 33 (وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُّنِيْبِيْنَ إِلَيهِ ثـُمَّ إذَا أَذَاقَهُمْ مِّنْهُ رَحْمةً إِذَا فَرِيْقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُوْنَ) وقال تعالى في سورة الروم آية 36 (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوْا بِهَا وَإنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيْهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنطُوْنَ) .

     ورحمة الله خير من أي متعة ، أو من أي منفعة، من متاع أو منافع هذه الدنيا الزائلة قال تعالى في سورة الزخرف آية 32 (وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُوْنَ) أي أن رحمة الله بخلقه خير لهم مما بأيديهم من أموال ونفائس وكنوز وبنين ونساء وأنعام أو غيرهم من متع الحياة الدنيا ، ولذلك فخير دعاء من الأبناء للأبوين علمه لنا الإسلام جزاء تربيتهما بكل ما فيها من إيثار للأبناء على نفسيهما والسهر من أجل راحتهم بل والجوع والتعرية من أجل إشباعهم وكسوتهم لم يكن الدعاء مقابل ذلك أن يعوضهما الله مالاً أو صحة بل كان بطلب الرحمة قال تعالى (وَقُلْ ربِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبّيَانِيْ صَغِيْرًا) سورة الإسراء آية 24 فرحمة الله أوسع ورعاية الله أشمل وجناب الله أرحب من أي نعمة أخرى .

     وهناك جملة من الأمور والتكليفات التي إذا تحققت في نفس الفرد وترجمتها جوارحه إلى أفعال ولسانه إلى أقوال استحق بها رحمة الله تعالى في الدنيا والآخرة منها الإيمان بالله ورسوله والتمسك بالقرآن والسنة والعمل بما فيهما والطاعة التامة لكل أحكامهما وتقوى الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وعمل الصالحات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصلح بين الناس والصبر على المصائب وولاية المؤمنين والجهاد في سبيل الله والهجرة لله ولرسوله وسماع القرآن والإنصات إليه وتدبر معانيه وكثرة الاستغفار وتجديد التوبة وعبادة الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فهو يراك قال تعالى في سورة التوبة آية 71 (وَالْمُؤْمِنُوْنَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُوْنَ بِالْمَعْرُوْفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ويقِيْمُوْنَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوْنَ الزَّكَاةَ وَيُطِيْعُوْنَ اللهَ وَرَسُوْلَه أُولـٰـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيْزٌ حَكِيْمٌ) وقال عز وجل في سورة البقرة آية 218 (إِنَّ الَّذِيْنَ آمَنُوْا وَالَّذِيْنَ هَاجَرُوْا وَجَاهَدُوْا فِيْ سَبِيْلِ اللهِ أُوْلـٰـئِكَ يَرْجُوْنَ رَحْمَةَ اللهِ وَاللهُ غَفُوْرٌ رَّحِيْمٌ) وقال جلّ وعلا في سورة الأعراف آية 56 (إنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيْبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِيْنَ) وقال في سورة الجاثية آية 30 (فَأَمَّا الَّذِيْنَ آمَنُوْا وَعَمِلُوْا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِيْ رَحْمَتِهِ) وقال في سورة الحديد آية 28 (يـٰـأَيُّهَا الَّذِيْنَ آمُنُوْا اتَّقُوْا اللهَ وَ آمِنُوْا بِرَسُوْلِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَّحْمَتِهِ) وقال في سورة النمل آية 46 (قَالَ يَا قَوْمِ لم تَسْتَعْجِلُوْنَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُوْنَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُوْنَ) وقال في سورة البقرة آية 155-157 (وَبَشِّرِ الصَّابِرِيْنَ الَّذِيْنَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُّصِيْبَةٌ قَالُوْا إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُوْنَ أُوْلـٰـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوٰتٌ مِّنْ رَّبِّهمْ وَرَحْمَةٌ) وقال في سورة الأعراف آية 204 (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوْا لَهُ وَأنْصِتُوْا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) وقال (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُوْنَ إِخْوَةٌ فأَصْلِحُوْا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوْا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُوْنَ) سورة الحجرات آية 10 وقال الرسول (الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) رواه أبو داود والترمذي ، وقال (من لا يرحم الناس لا يرحمه الله) رواه البخاري ومسلم وأحمد (إنما يرحم الله من عباده الرحماء) وقال (من لا يرحم من في الأرض لا يرحمه من في السماء) رواه الطبراني . أما الذين ليس لهم نصيب من رحمة الله فهم الذين قال عنهم القرآن الكريم (وَالَّذِيْنَ كَفَرُوْ بِآيَاتِ اللهِ وَلِقَائِهِ أُوْلـٰـئِكَ يَئِسُوْا مِنْ رَّحْمَتِيْ وأُولـٰـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ اَلِيْمٌ) سورة العنكبوت آية 23 وقال تعالى في سورة الحجر آية 56 (وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّوْنَ) وقال الرسول فيما رواه الترمذي وأبو داود وغيرهم (لا تنزع الرحمة إلا من شقي) فقد حكم عليه الصلاة والسلام على العارين من الرحمة بأنهم هم الأشقياء . فالرحمة من معالم الإيمان وسمة من سماته وأثر من آثاره ، ذلك الإيمان الذي يرقق بنفحاته القلوب الغليظة والأفئدة القاسية ، فهذا هو عمر بن الخطاب وقد كان معروفا بالشدة والقسوة في جاهليته حتى أنه وأدبنتًا له ، قد فجر الإيمان ينابيع الرحمة والرقة في قلبه حتى أنه لما وُلِّيَ إمارة المؤمنين كان يرى نفسه مسؤولاً أمام الله عن بغلة تعثر بأقصى البلدان، وقد غلب هذا الخلق على أعمال المسلمين الأولين ووضح آثاره في سلوكهم حتى مع الأعداء المحاربين فنجد رسول الإسلام يغضب حين مرّ في إحدى غزواته فوجد امرأة مقتولة فقال (ما كانت هذه لتقاتل) وينهى عن قتل النساء والشيوخ والصبيان ومن لا مشاركة له في القتال . ويسير أصحابه علي نفس النهج أبرارًا رحماء لا فجارًا قساة ، فهذا أبو بكر يودع جيش أسامة بن زيد ويوصيهم قائلاً لا تقتلوا امرأة ولا شيخًا ولا طفلاً ولا تعقروا نخلاً ولا تقطعوا شجرة مثمرة وستجدون رجالاً فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما أفرغوا أنفسهم له ، ويقول عمر: اتقوا الله في الفلاحين الذين لا ينصبون لكم الحرب ويحمل إلى أبي بكر رأس مقتول من كبراء الأعداء المحاربين فيستنكر هذا العمل ويعلن سخطه عليه ويقول لمن جاءه بالرأس لا يحمل إلى رأس بعد اليوم فقيل له إنهم يفعلون بنا ذلك فقال فاستنان «أي اقتداء» بفارس والروم؟! العرب...(7) ولم يكتف الإسلام ببيان صور الرحمة الإلهية وآثارها أو بيان صفات المستحقين لها وإن كان هذا يكفي ليتعظ ويعتبر الإنسان ويعكف على بحث سبل الاهتداء إليها بل أمر الإسلام بإشاعة جو الرحمة في المجتمع قال تعالى في سورة البلد آية 17 (وتواصَوْا بِالصَّبرِ وَتوَاصَوا بِالْمَرْحَمَةِ) فالتواصي بالمرحمة أمر زائد على الرحمة أنه إشاعة الشعور بواجب التراحم في صفوف الجماعة عن طريق التواصي به والتحاض عليه واتخاذه واجبًا جماعيًا وفرديًا في الوقت ذاته ، يتعارف عليه الجميع ويتعاون عليه الجميع ...(8) والمؤمنون أتباع سيدنا ونبينا محمد والذين يسيرون على هداه ووفق سنته متراحمون فيما بينهم يعطف بعضهم على بعض ويواسي كل منهم أخاه فمشاعرهم متلاقية وأحاسيسهم تنبض بالتعاون والتساند والتعاطف والتآلف لا مكان للقسوة بين قلوبهم ولا تظهر الشدة أو الغلطة في محيطهم إلا مع أعدائهم من الكفار قال تعالى (مُحَمَّدٌ رَّسُوْلُ اللهِ وَالَّذِيْنَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) سورة الفتح آية 29 وقال (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) رواه مسلم . والمؤمن مأمور بأن يكون له حظ ونصيب من أسماء الله الحسنى يتخلق بها في سلوكياته وحظ العبد من اسم (الرحمن) أن يرحم عباد الله الغافلين فيصرفهم عن طريق الغفلة إلى الله بالوعظ والنصح بطريق اللطف دون العنف وأن ينظر إلى العصاة بعين الرحمة لا بعين الإيذاء وأن يري كل معصية تجري في العالم كمعصية له في نفسه فلا يدخر جهدًا في إزالتها بقدر وسعه ، رحمة لذلك العاصي ، من أن يتعرض لسخط الله تعالى وحظ العبد من اسم (الرحيم) ألا يدع فاقة لمحتاج إلا ويسدها بقدر طاقته ولا يترك فقيرًا في جواره أو في بلده إلا ويقوم بتعهده ودفع فقره إما بماله أو داهه أو بالشفاعة إلى غيره فإن عجز عن جميع ذلك فعليه بالدعاء وإظهار الحزن رقة عليه وعطفاً حتى كأنه مساهم له في ضره وحاجته...(9) فالرحمة تأبى على صاحبها أن يعكف على ملذاته ومسراته وأن يتمتع بثروته وقد علم بجانبه مريضًا حرمه المرض لذة الحياة أو جائعًا حرمه الجوع لذيذ المنام أو منكوبًا أصابته الأيام أو يتيمًا يبكي أباه أو أرملة فرق بينها وبين عائلها القدر ، والرحمة تحمل صاحبها على أن يتألم لآلام الناس ويبكي لبكائهم ، فإذا رأى فقيرا أحس بآلام فقره وأثقال بؤسه وإذا رأى منكوباً تأثر بوطأة نكبته ، والرحمة تحمل صاحبها على أن يخفف الويلات ويمسح العبرات ويكافح الآلام ويدفع الأحزان ويحنو على الضعفاء والمنكوبين كما تحنو الأم الحنون على أبنائها يقول المنفلوطي : لو تراحم الناس ما كان بينهم جائع ولا عريان ولا مظلوم ولاستقرت الدموع في المدامع واطمأنت الجنوب في المضاجع ومحت الرحمة الشقاء من المجتمع كما يمحو الصبح ظلام الليل ...(10) ورحمة المؤمن لا تقتصر على إخوانه المؤمنين وإن كان دافع الإيمان المشترك يجعلهم أولي الناس بها وإنما هو ينبوع يفيض بالرحمة على الناس جميعًا وقد قال رسول الله لأصحابه رضوان الله عليهم فيما رواه الطبراني (لن تؤمنوا حتى ترحموا قالوا يا رسول الله كلنا رحيم قال إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه ولكنها رحمة العامة) كما نبه الإسلام إلى أن هناك أقواماً مخصوصين ينبغي أن يحظو بأضعاف من الرحمة والرعايا وهم الأباء والأبناء والأقارب والأيتام والمرضى وذوي العاهات حتى الحيوان لم يسكت الإسلام عن طلب الرحمة له وقد أعلن النبي لأصحابه أن الجنة فتحت أبوابها لبغي سقت كلبًا فغفر الله لها ، وأن النار فتحت أبوابها لامرأة حبست هرة حتى ماتت فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض . فإذا كان هذا عقاب من حبس هرة بغير ذنب ، فماذا يكون الذين يحبسون عشرات الألوف من بني الإنسان بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ؟ وقال رجل : يا رسول الله إني لأرحم الشاة أن أذبحها فقال (إن رحمتها رحمك الله) الحاكم ، ورأى عمر رجلاً يسحب شاة برجلها ليذبحها فقال له : ويلك قدها إلى الموت قودًا جميلا ، ويروي المؤرخون أن عمرو بن العاص في فتح مصر نزلت حمامة بفسطاطه أي خيمته فاتخذت من أعلاه عشاً وحين أراد عمرو الرحيل رآها فلم يشأ أن يهيجها بتقويضه فتركه وتكاثر العمران من حوله فكانت مدينة الفسطاط ، ويروي ابن الحكم في سيرة الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز أنه نهى عن ركض الفرس إلا لحاجة ، وأنه كتب إلى صاحب السكك أن لا يحملوا أحدًا بلجام ثقيل ، ولا ينخس بمقرعة في أسفلها حديدة ، وكتب إلى واليه بمصر : أنه بلغني أن بمصر إبلاً نقالات يحمل علي البعير منها ألف رطل فإذا أتاك كتابي هذا فلا اعرفن أنه يحمل على البعير أكثر من ستمائة رطل ...(11) ورحمة الإنسان بنفسه تكون بالوقوف بها عند ما أمر الله والانتهاء عما نهى عنه فلا يوردها موارد الهلاك ولا يكلفها من العمل ما لا يطاق وأن يزكيها فلا يظلمها فمن ظلم نفسه كمن ظلم غيره على حد سواء وألا تذل رقبته إلا لله وألا يركع لأحد سواه ، وتظل الرحمة مع المسلم في كل خطاه كسمة مميزة لشخصيته لا تنفك عنها ، قلبًا وقالبًا لك أقوله ولكل أفعاله ، ومنهج لحياته وقاعدة لسلوكياته في يومه وليلته ، وتحكم علاقاته مع من حوله ، فأن غيابها عن سلوكه يعني فساد سعيه وضلاله وغلبة الشقاء عليه ، فقد جعلها الله تبارك وتعالى سنة من سنن الحياة ودعامة لاستمرارها وبدونها لن تقوم للحياة قائمة ولن يستطيع البشر النهوض بما خلقوا له من رسالة ، فهي سياج للأمن والأمان في المجتمع ...(12) وهي سر حياة هـذه الأمــة وبـدونها تفقد مقومات قيامها ، فالصفات الطيبــة الحميــدة التي عـلى المسلم أن يتحلى بها ويتصف بها في تعامله مع أخيه المسلم تجــدها تنمــو وتزدهر وتنتشر في جوّ من الرحمة والألفة ، والعكس بالعكس إذا وجد الجفاء والشدة في التعامل انفتح المجال للصفات غير الحميدة ، وقد حض الإسلام على نشر أشعة الرحمة بين أركان المجتمع المسلم لتدفئة كل فرد من أفراده والتي كلما قويت واتسع مداها كلما شملتنا الرحمة الإلهية والتي نحن في أمس الحاجة إليها .

*  *  *

المراجع

(6)          في ظلال القرآن سيد قطب ج 5 ص 2921 – 2923.

(7)          كتاب الإيمان والحياة يوسف القرضاوي ص 290-291.

(8)          في ظلال القرآن سيد قطب ج 6 ص 3913 .

(9)          كتاب الإيمان والحياة يوسف القرضاوي ص 288-289.

(10)      مجلة المجاهد – مصرية العدد 132 جمادى الآخر 1411هـ ديسمبر 1990م .

(11)      كتاب الإيمان والحياة د. يوسف القرضاوي ص 289-290 .

(12)      مجلة المجاهد – مصرية العدد 132 جمادى الآخر 1411هـ ديسمبر 1990م .

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ربيع الأول – ربيع الثاني 1426هـ = أبريل – يونيو 2005م ، العـدد : 4–3 ، السنـة : 29.

 



(*) 6 شارع محمد مسعود متفرع من شارع أحمد إسماعيل وابور المياه – باب شرق – الإسكندرية ، جمهورية مصر العربية.

           الهاتف : 4204166 ، فاكس : 4291451

           الجوّال : 0101284614

         Email: ashmon59@yahoo.com